ما من شك في أنّ التصوّر يشتمل على جانب تقني متقن، وهو يدخل في تفاصيل جدية، وربما عديد من أجزائه تفيد في أشكال متعدّدة من الحلول للوضع القائم. وهو مبني على خبرات وتجارب عديدة، ويشير إلى التغييرات الضرورية في المستوى الدستوري والتشريعي، حيث يشير إلى أنه يركز على هذا الموضوع بالتحديد.
لكن ما أعتقد أنه إشكالي في كل النص هو أنه يحاول أن يوفق بين وجهات نظر "الأطراف المختلفة"، أي بما في ذلك "السلطة القائمة"، وبشكل أدق الفئة المتحكمة بالسلطة الآن (بشار الأسد والمجموعة التي ترتبط به). ولهذا يميل حتى إلى لوي عنق مبادئ جنيف فيما يتعلق بمفهوم السلطة الانتقالية، بما يجعلها يمكن أن تقبل بوجود الرئيس (أي بشار الأسد). فنص المبادئ المنشور كملحق مع الورقة يشير إلى "إقامة هيئة حكم انتقالية" أولاً، وهذا يعني أنه لا يطرح تشكيل حكومة انتقالية بل "هيئة حكم"، الأمر الذي يعني أنها "كل" الحكم، بما يشمل التشريع والتنفيذ (وفي نص المبادئ إشارات إلى ذلك). وبالتالي فهي هنا تقوم مقام مجلس الشعب والرئيس والحكومة معاً، وهذا ما يجعلها تمارس "كامل السلطات التنفيذية" كذلك. إن معنى "هيئة الحكم" هو غير معنى الحكومة الانتقالية أو حكومة الوحدة الوطنية، وبالتالي يفترض أن دورها يتحدّد في ممارسة كل الصلاحيات، وأن تكون هي الهيئة المشرعة والمقررة والمنفذة كمرحلة انتقالية إلى حين إقرار دستور جديد وإجراء انتخابات جديدة.
إنّ الانطلاق من اعتبار النظام ذاته طرفاً في الحوار، إضافة إلى أنه لا يقود إلى الوصول إلى حل، أفضى لأن وضع خيارات لا تبدو ممكنة أصلاً، مثل "تعديل دستور عام 2012" أو حتى "العودة إلى دستور عام 1950". فالحل لا بد من أن ينطلق من وقائع الصراع الذي بدأ مع الثورة، التي طرحت مطالب ليس من الممكن تجاهلها، بغض النظر عن تشعب الصراع الآن، ووصوله إلى حالة احتراب. بمعنى أن المسألة لم تبدأ كحالة احتراب لكي يجري العمل على إعادة بناء الثقة بين الأطراف المتحاربة وترتيب شكل السلطة الذي يمكن أن تتوافق عليه، كما حدث في لبنان. بل أن هناك ثورة نشبت تطالب بإسقاط النظام، ووجهت بكل عنف ووحشية وتدمير وقتل. وبالتالي ليس من الممكن أن يركب حل يتضمن الفئات التي ثار الشعب لإسقاطها، ومن ثم مارست كل العنف والوحشية التي شهدناها طيلة السنوات الأربع.
طبعاً هذا لا يعني استبعاد كل السلطة، لكنه يعني أنه ليس من الممكن أن يبقى الرمز الذي ارتبطت به كل المشكلات قبل الثورة وكل الجرائم بعدها. وبالتالي يمكن أن يشارك طرف آخر من السلطة يقبل بحل. هنا لا بد من وضع أسس الحل الذي يمكن أن يكون مقبولاً من قبل الشعب (أغلبية الشعب، نصف الشعب، ..) الذي ثار يريد التغيير. ووفق تجارب ثورات تونس ومصر واليمن فإن المسألة انحصرت في إزاحة الرئيس وحاشيته. هناك من خلال فعل قوى داخل السلطة، وهو الأمر الذي لم يظهر إلى الآن في سورية، لكن أظن أنه ضروري للوصول إلى حل، بالضبط لأنّ الثورة لم تتطوّر بما يجعلها قابلة للانتصار. هذا هو المأزق الذي يحكم الوضع السوري، كيف يمكن أن يجري التوصل إلى حل؟
لا بد الآن من أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ الوضع السوري بات محكوماً من قبل دول أخرى، إيران وروسيا من طرف، والسعودية وقطر وتركيا وأميركا من طرف. ومن ثم أن الحل بات يرتبط بالتوافق بين هذه القوى. وأنّ العقدة التي ظهرت في مؤتمر جنيف2 هي أن روسيا وإيران لم يدفعا بإرسال وفد يمثل النظام قابل بالحل القائم على مبادئ جنيف1. لهذا فشل المؤتمر، وخصوصاً هنا نتيجة الدور الروسي الذي راهن على أن ينجح في الوصول إلى الحل مع بقاء بشار الأسد رئيساً. الآن تراجع الدور الروسي بعد الأزمة الأوكرانية التي ألهته، وجعلت أميركا تتراجع كما يبدو عن موقفها السابق في أن ترعى روسيا الحل، بعد أن باتت تتدخل في الشأن السوري تحت يافطة "الحرب على داعش"، وبالتالي باتت تقرر بفاعلية أكبر في أي حل ممكن. ومن ثم أصبحت إيران بعد أن باتت تقاتل دفاعاً عن النظام هي الأكثر تأثيراً في الحل من طرف السلطة. بالتالي ربما تكون المساومات الأميركية الإيرانية هي التي يمكن أن توصل إلى حل.
في كل الأحوال لا بد من أن ينطلق أي حل من إزاحة بشار الأسد وحاشيته. هذا أساس في إمكانية تهيئة الأجواء لإنهاء الصراع المسلح القائم، والوصول إلى شكل ما من الاستقرار. وكل مقترح لا ينطلق من هذا الأساس سوف يلاقي الفشل بالضرورة. طبعاً حتى وإن توافقت على ذلك كل القوى الإقليمية والدولية. لكن الحل الآخر يفترض أنّ تصل كل هذه القوى إلى قناعة بضرورة الحل كذلك، خصوصاً هنا والآن كل من أميركا وإيران. حيث أنه، كما أشرنا، يبدو أنّ تأثيرها مباشر وأساسي على كل من السلطة (إيران) والمعارضة الخارجية (أميركا)، وعلى الدول الإقليمية المؤثرة مثل السعودية خصوصاً، والى حد ما قطر (أميركا). وبالتالي فهي قادرة على "فرض" الحل.
وإذا كانت المعارضة الخارجية سارت عبر الضغط (أو الترتيب) الأميركي للموافقة على مبادئ جنيف1، فإن المعارضة الداخلية سوف توافق على حل متوافق عليه بين هذه الأطراف الدولية، وسوف تنساق الكتائب الإسلامية المرتبطة بالسعودية خلف الحل، بينما ستقبل الفصائل الأخرى نتيجة الوضع الصعب الذي باتت تعيشه الثورة، والمجتمع عموماً. تبقى القوى "الجهادية" التي سوف يجري الحشد ضدها على ضوء التوافق الممكن. وسيقبل الشعب كل حل يوقف الحرب والعنف والتدمير ويسمح بعودة "الحياة الطبيعية". هنا يمكن الإشارة إلى أن العقدة تكمن في السلطة ذاتها، حيث من أجل تحقيق حل لا بد من إبعاد بشار الأسد وحاشيته. من يقوم بتحقيق ذلك؟ وما هو دور إيران خصوصاً، وربما روسيا أيضاً؟
بالتالي سيكون الحل قائماً على التالي وفق ما أعتقد:
1) تشكيل هيئة حكم انتقالية من طرف من السلطة وأطراف من المعارضة، وربما أيضاً "تكنوقراط".
2) الاتفاق على إعلان دستوري يحكم المرحلة الانتقالية.
وتكون مهمة الهيئة الانتقالية هي التالي:
أ) إنهاء الصراع المسلح وترتيب ضبط الأمن.
بـ) إعادة هيكلة الجيش بإشراك من يرغب من الكتائب المسلحة، وإعادة المنشقين، وبالتالي تسليم ضباط أكفاء قطاعاته. وكذلك الأجهزة الأمنية التي تفترض إعادة هيكلة ودمج، وتحديد "عقيدة أمنية" مؤقتة تهدف إلى المساعدة في ترتيب الوضع الأمني بشكل حيادي.
تـ) إعادة هيكلة مؤسسات الدولة والقضاء على أساس الكفاءة والمهنية والخبرة.
ثـ) كتابة دستور جديد والاستفتاء عليه.
جـ) إطلاق الحريات و العمل النقابي والإضرابات وكل أشكال الاحتجاج.
حـ) طبعاً التعويض على كل من قتل، والتركيز على إعادة الإعمار، وإطلاق العجلة الاقتصادية.
وما دامت الورقة تتعلق بالدستور والتشريع فيمكن أن تكون مقترحاتها مفيدة في تحضير الإعلان الدستوري كما في إعادة هيكلة المؤسسات والقضاء والحريات.